التفكير خارج العلبة الايطالية
العقيد بن دحو
قد يتبادر الى الاذهان ان الحديث سوف يكون حول الهيكل العمراني للمسرح
الأيطالي في عصر النهضة.
وبما ان الضيق بالاداب و الفنون و كذا الثقافات بلغ بها مبلغ القلوب
الحناجر ، لم تعد الحواس الكلاسيكية الخمس التي تعاهدنا عليها و لا حتى تلك
السادسة منها اصطلاحا بالكافية.
ولا حتى التفكير الساذج ، النمطي بما يحيط بنا من حجر و شجر و بشر بالكافي.
و لا حتى (اللغة) التي راهن عليها العديد من المفكرين و الباحثين و النقاد
في علم الاصول و الاغراض ، على اعتبارها حوارية بين سائر الثقافات و الحضارات و
الاديان لم تعد كذلك.
و لا حتى تلك الحربات الني كان يتغنى بها كبار الساسة و القادة و المناضلين
لم تعد تكفي شاعرا واحدا ، رساما واحدا ، نحاثا واحدا ، كاتبا واحدا ، ممثلا واحدا
، مثقفا و لا مفكرا واحدا.
مما اضطر العديد الى ابداع و اكتشاف -
" انا لا ابحث انا اجد " (بيكاسو) - لغة جديدة للريح ، لغة للمطر
، لغة للاعاصير و لمختلف الكوارث الطبيعية ، لغة للحرب ، لغة السلم ، لغة للالم ،
لغة لليأس ، لغة للامل ، للتقدم و لغة للتأخر.
بل ؛ معظم الحريات المتاحة الأنسانية (لاحرية لأعداء الحرية) لا تكفي لمبدع
واحد في جنس فني ادبي واحد !
تكيف الانسان المعاصر مع الطارئ فصار يتعامل بما يسمى "تراسل
الحواس" و بما يسمى "تداعي الخواطر" او تسمى (الايكولاليا) Echolallia أو تسمى Senstassias.
اي تداعي الخواطر و تراسل الحواس بالوعي و اللاوعي.
لهذا السبب ، و لأن الأوضاع كما هي فحتما لن تبقى كما هي ، ولأن السياسي لا
يسعده كثيرا التحول او التنقل او التغيير. كان لزوما و طبيعيا ان تتغير و تتبدل
الاحوال مرغما لا بطل ، طبقا لسنة الله في خلقه و طبقا لسنن الطبيعة.
كان لا بد من تفكير جديد و من محاكمة جديدة و من ابداع جديد خارج العلبة
الايطالية او تسمى العلبة السوداء او تسمى العلبة الفرنسية.
فبضربة خفيفة واحدة على الوتر الحساس حتى تتدفق السنفونية الحانا بديعة
تملأ المكان ؛ بل تهزه من جذوره و من اعماق اعماقه و تبعثه الحياة من جديد.
تصير المرئيات مسموعات ، المسموعات مشمومات ، و المشمومات اذواقا ، و
الملموسات مسموعات او تراسلات اخرى بما يغنى اللغة الشعرية.
كان يجب منذ القدم التخلص من التفكير الدرامي المأسوي (الايدبوسي) أوديب
ملكا.المحرم و المحلل ، المقدس و المدنس ، من تمكن فك اللغز ، و خلص أهل
"طيبة" من هول الهولة او اسئلة أبي الهول.
هكذا الانسان حين يستحدم قدراته الذهنية
على التفكير و المحاكمة و حل المشكلات ، يحرر نفسه ؛ و اذ يحررها يدفع الى
تحرير الواقع المرير المحيط به. من ضغوطات الحياة و مختلف العوائق و العراقيل و
الصعاب التي تجابهه و تحد سبيل رقيه وازدهاره ، و كذا نموه الطبيعي السياسي
الاجتماعي الاقتصادي الثقافي.
اذ لا يعيش الانسان لذاته انما للانسانية جمعاء. لا سيما في هذا العصر
المكوكب ، المعولم ، المعلب على كافة مصارع الاوبئة و الامراض الفتاكة و الفوضى الخلاقة و غير
الخلاقة المدمرة ، المهددة بالحروب في اي
زمكان.
تجاوز الانسان حفظ الرسالة الوراثية ، و من مجرد حفظ البقاء او حفظ النسل
او الخوف من انقراض العنصر البشري على وجه هذه البسيطة الى الارتقاء و الارتفاع
الى مستويات مرموقة سامية من الابداع و الاكتشاف في مجالات الاخلاق و الاداب و
الفنون و الفكر و العلوم.
و الانتقال من الانسان العارف Homo sapient ومن الانسان
اللعوب. Homo Ludens الانسان اللعوب الى الانسان المفكر Homo clever.
القدرة على تقليب العناصر من جديد و تنظيمها في المحيط ووضعها في حالة
القابلية للتكيف مع الطارئ في أي لحظة من اللحظات و في اي مكان من الامكنة بواسطة
لغة اخرى غير هذه اللغة النمطية التي يدعي كل جنس و كل قبيله بانه وحده الذي يتكلم
!
لغة ابداعية توحد العالم من جديد ، لغة لا هي مقدسة و لا هي مدنسة ، لا هي
لا ارضية و لا هي سماوية ، لا هي ملائكية و لا هي بشرية. لا تبيع و لا تشتري صكوك
غفران تدخل الجنة او تدخل النار'!
لغة الاشارات و الرموز ، الكلمات ، الاشارات ، الارقام و الصور و المخططات
و كافة التيمات و اللوجوسات و اللبوسات.
يمكن وفقها التفكير ان يجد اشكالا جديدة من الخيال ، بدءا من حل مشكلة من
المشكلات العملية الى احلام اليقظة او ما يسمى "تطاير الخيال".
يبدأ اللعب من جديد ، لعبة عميقة الجذور ، غير تلك التي كانت قائمة حتى مما
قبل ان نولد.
تحررنا من " الكبث"من الاستسلام الى "الجاهزية" و الى
سطوة جدوى "الشيئية".
ساعتئذ تفكيرنا الخيالي يستعمل لخدمة الواقع و ما بعد الواقع ، و حينئذ
يصير للانسان مبدعا Homo Creator.
اذن التفكير خارج العلبة الايطالية ، ان يكون الانسان المبدع حرا ، سيد
قراراته ، لا يبدع تحت الطلب او تحت ضغط اكراهات اية سلطة من السلط.
فكيف لمبدع اليوم يدعي التفكير ابداعا و حكامة و هو يبدع له ، يخطط له ،
يهمز له ، يفكر عوضا عنه.
احيانا الغناء خارج السرب و كذا التغريد هو عينه التغريد ، لا سيما اذا ألتمس الانسان المبدع (السرب)
كله فقد بوصلة الاتجاهات و صار خبط عشواء في نهجه و سلوكه اليومي لا يفرق بين رحلة
الشتاء و رحلة الصيف !.
عليه ان ينأى بنفسه خوفا ان يتحول
بدوره الى انسان خرتيت ، انسان يونسكو في احدى قصصه الشهيرة ذات الاتجاه المعاصر
الحديث : "الخراتيت".