مليوس حبيبتي ، هيروشيما حبيبتي ، رقان حبيبتي
العقيد بن دحو
تعددت الاسباب و الموت واحد . غير
ان موتا من موت ، و من لم يموت بالسيف مات بغيره ، يوما على الة حدباء
محمول.
عولج الموت عند كثير من الاقوام و الامم و الشعوب و عند العديد من الحضارات
الانسانية غامضة ، فلما عجزت عن تفسيره عقلانيا ، اطلقت العنان لمخيلتها الجمعية ،
اذ صنعت و ابجعت و خلقت من حلمها الجمعي
اسطورية ، صورة تيتانوس اغريقي يسمى (هادس) ، يسكن مملكة تحت الارض تسمى
(هديز) لا يؤوب منها مسافر !.
غير ان هذا الموت الذي ارعب اقواما و اخافهم ، هو نفسه يخشى الموت و يخافه
!.
لذا تجد الكاتب المؤلف المسرحي و المخرج السينمائي (كافكا) يتسائل في احدى
مسرحياته (اورفيوس) : من ينقذ الموت من الموت !؟
هذا ؛ وليست وحدها البشر التي تنقضي اعمارها طبيعيا او وفق عامل خارجي ،
تفتر و تزول مالظل الخسير ، ان الشحرة و ان قطعت اغصانها و حفت خراعبها ، فبامكان
من رائحة الماء و رزوبة الارض ان تبعث من جديد ، لكن اين الانسان !؟ كالحروب ،
الاوبئة ، الامراض ، المجاعات ، و تقلبات الظروف الظبيعيو و حالات المناخ التي لا
تدوم على حال و لا تستقر على وضع.
الدول و المدن ايضا تموت ، و موت المدن موقع ، مؤلم ما بعده الم ، ومحزن ما
بعده حزن ، و فناء ما بعده فناء، فما بالك ان كان تحت وقع حربي مجنون ، تحت ردم
قصف نمووي كما هو في حالة مدينتي هيروشيما و نغازاكي باليابان ابان الحرب الكونية
الثانية - 1939 ، او كان تتعرض المدينة عن
سبق اصرار و ترصد للاشعاعات النووية ، كحقل تجارب.
المدينة ايضا تموت ، كونها تتصف بالصفات المعنوية ، لذا اعطيت للمدينة ما
يعطى للبشر ، اسما ، مجلسا ، و دوائر سياسية اجتماعية اقتصادية حضارية اخرى.
اذ الاسماء و الطباع قلما لا تتفق.
لهذه الاسباب تجد الذهنية الاغريقية مما قبل التاريخ ، تفطنت مبكرا لدور
المدينة ، قدستها و جلتها ، و انزلتها منزلة الاله. سمتها الاغارقة (بوليس) POLIS - ليست
الشرطة البوليس - انما بوليس تعني : باحسن معلم.
تجد معظم المدن الاغريقية " اثينا" ، "ثيبا" ،
"ارغوس".....
وردت بالاثار الكلاسيكية و في ينابيع الفكر الاخلاقي ، جنبا الى جنب الالهة
، الابطال ، و انصاف الالهة . تقدم لها القرابين و الولاءات و الولائم و الاثاوات ، و اناشيد الجوقات و
الكورس في جل مظاهر الاحتفائية كاعياد ديونيسيوس و ابولو ، اعياد الحب و الخصب
الانباتي و غيره ، اعياد الانتصارات ، و الافراح ايام بلياليها الطوال ، و بدورة شمسها الواحدة الدرامية التراجيدية
الكلاسيكية اي مدتها : تدوم يوم و ليلة من العرض. اين يتبارى و يتسابق الشعراء على
انبل و اعرق و اجود المسرحيات.
لذا تجد عندما سقطت مدينة (مليوس) حبيبتهم ، على ايدي الفرس ، التي كانت
تسميهم الاغارقة (البيسيسيتراس) Picisstrasse اي البرابرة حزنت الساكنة حزنا كبيرا على
مدينتهم ، انكفاوا على انفسفهم ، ، واوقفوا كل عروض الفرح و البهجة التي كانت
تزدهر بها مدينتهم الغراء.
جسدها الشاعر الدرامي الجميل (فرينكوس) في قالب فني درامي تراجيدي ، ماسوي
، هز الخلق من ديباجته من جديد.
و لما شهدت و شاهدت الساكنة العرض على خشبة المسرح ضجت الجماهير
بالبكاء ، اذ كان يسمع بكاءهم وعويلهم الى مسافات بعيدة ؛ مما اضطرت الحكومة انذاك
للتدخل ووقفت العرض المسرحي ، بل فرضت على الشعب غرامة مالية قدرها 1000 دراخما ،
كما نوفي شاعرها الجميل الى ايطاليا. و على الرغم ان افلاطون الفيلسوف كان يكره
المسرح ، الا ان قال قولته الشهيرة في حق الشاعر و المسرحية : انا مستعد اسافر
ايطاليا لاشاهد مليوس حبيبتي.
اصعب و جلل السقوط عندما تسقط المدن ، و تستعمر و تدمر ما بعده سقوط !
قد نجد هذا في ارجوس المدينة التي سقطت داخليا بالمؤامرات و الحيل من اجل
الوصول الى حكم المدينة في مسرحية ثلاثية اسخيلوس ، حين عاد المربي باوريست ، بعد
ان اشتد ساعده لينتقم من حزن اخته الابدي الاسود الكترا ، و من امه كلوتيمنسترا
المتامرة على قتل والده المغدور .
يقول المربي : هذه مدينة ارجوس القديمة التي طالما اسفت على فراقها !
جسد الوقيعة ايضا المفكر جون بول سارتر الشاعر الفيلسوف الوجودي على الركح
المسرحي الفرنسي 1943 اقتباسا و تناصا ، حيث عالج موضوعها ؛ موضوعا حديثا باسم
(الذباب) او (الندم) ، صبغ عليها مختلف
اراءه و افكاره الفلسفية ، نضالاته الثورية في مقاومة الاستعمار النازي الالماني ، غداة سقوط العاصمة
الفرنسية باريس.
كانت هنا باريس هي مدينة ارجوس الاغريقية ، و الذباب هو الجيش الغازي
الهلتلري النازي حاملة القرابين ، يضرب في
اي مكان.
الا ان موت المدن بلا عنوان ، موت بلاصفات ، عار على جبين الانسانية جمعاء
، لا يطويه نسيان و فوات او تاخر وقت اوزمن ، يوم ضربت هيروشيما بافتك الانواع
الاسلحة ، اسلحة الدمار الشامل ، يوم ذاك قبضت الانسانية جمعاء على انفاسها ، و
ادرك عن يقين انها امام حجم كارثة لم تبق و لن تدر ، ان لم تجد وفاقا و عقدا امميا
يلزم الجميع بمعاهدة الحد من هذا السباق الجنوني. اين قدرة الانسان تجاوزت طاقة
الانسان !
حينها جسد الحادثة الكاتب الروائي الماساة قي شكل رواية تحت مسمى (هيروشيما
حبيبتي) سنة 1959 ، لتتحول بدورها الى فيلم يوثق و يؤرخ لابشع جريمة حرب عرفها
العالم. هم ستة ناجيين ؛ نجوا باعجوبة من الانفجار ، لكن الى اين ، متى ، لماذا ،
وكيف ؟
اسئلة تواجه كل منهم ، و كل من نجى من موت الانفجار النووي في اللحظة ، الى
انفجار اخر مزمن متلازمة الموت بلا صفات ، الذري الاشعاعي ، ان لم يجد من يقتل قتل
القتل !.
ايضا هو نفس القتل الذي اصاب منطقة رقان بولاية ادرار الجزائر ، منطقة
حمودية يوم 13 فيفري 1960 ، حيث قامت السلطات الفرنسية مختلف التجارب النووية على
الساكنة ، اتخذت صفات القوارض الجرذان و اليرابيع ، من اليربوع الازرق الى اليربوع
الاحمر.
الفرق فقط انها مدننا تحولت الى قضايا عدالة شعرية ، ادبية ، فنية ، و
اتخذت صفات المدن الحبيبة ، بينما رقان ظلت حبيسة ادمغة الذاكرة ، تعيد التاريخ
مرتين ، مرة في شكل ماساة و مرة في شكل مسخرة ، حين من كان السبب في الضرر يرى
بعين السخرية لما يتوصل اليه الباحثين عن مهالك الساكنة و للمدينة التي لا تزال
تعاني من اشعاعاته و انبعاثاته النووية.
غير ان رغم كل شيئ ، ستظل (رقان) مدينة كسائر المدن المتضررة ، ضرر مزمن
بالانسان ، بالبيئة ، و بالتاريخ "رقان حبيبتي" عنوانا لمحمكمة اخلاقية
ستظل وصمة عار في جبين الانسانية ، حينما يقتل الانسان مرارا و تكرارا الى ما لا
نهاية ، كتلك الانفجارات متتالية خسابية اشعاعية اسها و اساسها الموت واحد.