انفاق قطاع غزة و تلافيف متاهة جزيرة "كريت"
العقيد بن دحو
اتساءل في حيرة و دهشة، على الرغم من الذهنية الاسرائلية التي تؤمن
بالخرافات و الاساطير ، اليهودية ، البابلية ، الاغريقية ، الرومانية ، و التي
حاولت مرارا و تكرارا ان تجعل من " يهودا" ، من "شمشون" ، ومن
"جلعاد" قصيدة متحجرة ؛ اذ ان كل كلمة
منها تخفي قصيدة متجمدة حسب راي
(ماكس فولر) لم تقرا هذه المرة اسفارها جيدا؟
الاسطورة حسب العقيدة الاسرائلية
معادلا دينيا او شبيهة بالدين ، تخفي لبوسا سيكولوجيا سوسيولوجيا و عسكريا ايضا.
تخفي خططا متحجرة من الف معركة و الف حرب ، كالمتحدث بلغة الكلمات الاولى يتحدث
بالف صوت.
الغريب ان الجندي المحارب الاسرائيلي و في حربه الجارية وطيسها على غلاف
غزة و داخل ثخوم غزة ، و رغم الترسانة الحربية المزود بها. و المدعمة بمختلف
الدروع الحديثة. المضادة و العازلة للصواريخ الكلاسيكية ، و على الرغم من تفوقها
الجوي و البحري ، و القبعة الحديدية و مقلاع داوود ، و مختلف الدعم اللوجستيكي
الاستخبراتي العسكري الامني الميداني الارضي و الفضائي الدولي الغربي خصوصا ، الا
انه جندي ادرك مؤخرا قواعد اللعبة تغيرت ، و هذا هو منطق التاريخ.لم يعد يثق قي
هذا الذكاء الاصطناعي الذي جعله اكثر غباءا ، وجها لوجه امام اشباح ، ابطال و مغاويير
، نشامة ، يظهرون فجاة و يختفون فجاة ، و من مسافة صفر يلحقون الادى و الدمار
بالالية التي كانت اسطورة الجندي الاسرائلي الازلي ، القضاء و القدر الذي لا يقهر
!.
صار العالم اليوم بما لا يدعو مجالا للشك بان هزيمة اسرائيل قائمة لا محالة
اجلا ام عاجلا ، و ان غزة القطاع ، ليست هي غزة الظاهر ، البنيات الفوقية و
البشرية ؛ ان كان لغزة بنية ما اسا و اساسا.
هذه المعركة التي فرضت على المقاومة الفلسطينية ، تنبه لها مبكرا المقاوم
الفلسطيني ، وحارب العدو الصهيوني بنفس سلاحه ، و خلفيته الذهنية ، ثقافة و اسلوبا
و سير المعارك و الحرب.
لذا لا غرو ان المقاومة الفلسطينية شيدت المئات الكيلومترات من الانفاق تحت الارض ، مدينة
باكملها للجندي المقاوم تحت الارض.
فكرة الانفاق هذه اسطورية اغريقية بالمقام الاول ، حيث سجن (المونيتور)
السفانكس في تلافيف متاهات جزيرة
"كريت" ، السفانكس الذي كان يتغذى على لحم البشر ، ثم اوكلت المهام و
اوحت الالهة للبطل ثيسيوس ان يقضي على المونيتور ، فاسلمت له اريادني زوجته الخيط
السحري ليرشده الى بر النجاة و الامان .
كانت هذه قصة سذاجة البداية ، احلام وردية ، غير انها تحمل خطة. لا تقول
خطة حرب و لا خطة سلام ، لا نقول عنها دواء كاذب و لا دواء ناجع ، غير انها خطة
كباقي الخطط ، تبقى نجاعتها و النجاح فيها متوقفة على ارادة المقاتل و الجدوى من
الحرب !
فالذهن المستعد هو الذي يجعل من الحلم الجمعي اسطورة ، و من الاسطورة علما
ميثولوجيا قابلا للتحقيق و التنفيذ.
صورة ذاك المقاوم الفلسطيني ، وهو يعبر ذاك الجدار العنصري الصهيوني ،
المعد باحدث التجهيزات الالكترونية و الاستخبارتية ، يعبره برا و بحرا وجوا ، تشبه
في مقامها و سحرها وجمالها على الرغم من الهتك الفظ لكلمة حرب. اسطورة اخرى تسمى :
"ديدالوس" : المهندس الاغريقي القديم
، بنى تلافيف متاهة جزيرة "كريت" ، حيث سجن المينوتور ، ثم سجن فيها هو
نفسه بامر من مينوس . لكنه تمكن من الفرار ،اذ صنع لنفسه جناحين من ريش لصقهما
بالشمع. واصطحب معه في طيرانه ابنه "ايكار" . وحين حلقا ، و اقتربا
كثيرا من الشمس فذاب الشمع وسقطا في البحر
ما اشبه الحلم بالواقع ، و الخيال
بالحقيقة ، و الاسطورة / الخرافة بالحرب.ذابت المسافات وصارت المسافة صفرا ، قي
زمن صار يصفر فيه كل شيئ.
اعطيت فيه تفسيرات و تاويلات اخرى
عدة لاسطورة ديدالوس كلاسيكية و حديثة.
بهذين التحليقين و المعنيين استطاع المقاوم الفلسطيني ان يحلق باجنحة ابعد
منه يوم 7 اكتوبر يوم العبور المقدس ، حقق لسطورة فنان ، يوم صارت الحرب قائمة على
الابداع و التفكير و المحاكمة ، و صار الحندي المقاتل المقاوم يقوم باسطورة فنان ،
القائمة على فعل القتل و الاسر و التفاوض ايضا ، القادر على الانتصار وربح المعركة
و الحرب معا.
لقد حقق المقاوم الفلسطيني بتحليقه هذا باتجاه الاعلى حيث يعيد اسطورة
ديدالوس ، و يصير الانسان الطائر. ثم الغوص بالاعماق ثانيا حيث يعيد اسطورة يوسف و
يصير الانسان الحالم. فلقد قاوم كلا من ديدالوس و يوسف خضوعهما للواقع المر ، و
وابى الا ان يعبر المستحيل بايمان ممكن.
الواقع الملومس هذا ما كنا تشير اليه دائما في جل كتاباتنا الى كبار قادتنا
المدنيبن و العسكريين الامنيين ان يقراوا و يطلعوا على امهات الملاحم الانسانية.
ان يقراوا و يطلعوا على " الاليادة" ، "الاوديسة" ،
"الانيادة" ، "الشاهنامة"، "المهابهارته"......
ان يقراوا و يطلعوا على مختلف العقد و
الاساطير الانسانية و لا سبما الاغريقية منها: "اوديب ملكا" "الكترا" ، "اونتجون" ،
"اياس" ، "فيلوكتيتيس" ، "اوديب في كولونا" و
العديد العديد من العقد الدرامية القائمة على الاساطير.
كون معظم هذه الاثار الفكرية الادبية الفنية خطط حرب متحجرة ، ان وجدت
الذهنية المتبصرة تصير سلاحا فتاكا. اذ الانتصار في المعارك و الحرب لم يعد يقوم على الواقع ، و انما على الحلم الجمعي ،
عندما تعطى للاساطير الكلاسبكية تفسيرات و فهما حداثيا و ما بعد الحداثة.
لذا لا غرو ان وجدت الدبلوماسية الحديثة تتحدث بلغة الاساطير ، الكلمات
الاولى ، تجعل من الصعب على دبلوماسي كلاسيكي ان مسايرتها و تماشيها مع
النيوكلاسيكية هذا العصر.
اخيرا لم تعد الاسطورة ميراثا للفنون ، انما صارب ميراثا للحروب ، بما ان
الحرب صارت تشكل اسطرة رجل الفن المعاصر ، البناء و التدمير و العكس صحيح. لعبة
الحرب ، لعبة عميقة الجذور. و على من يلعبها اولا بشكل صحيح.