مؤسسة الرواية
العقيد بن دحو
تبدو
رواياتنا و كتابها حسب ووفق فكرة الخرائب الدائرية (لبورجس) ، ليست الا العالم كما
يراه فقير هندي ؛ و لكن هذا الفقير نفسه لا يوجد الا في فكر فقير اخر - مثله مثل
صورة الدعاية حيث يحمل احد مدمني الخمرة زجاجة في يده تمثل اللصيقة عليها مدمنا
اخر للخمر يحمل في يده زجاجة و هكذا.... كما قال الشاعر الدرامي الاغريقي هويود
: "الفقر دية الكسل" ، حسب
نظرية العوالم المتداخلة.
لم تعد اذن الرواية هي تمرين ادبي يستخدم
الانسان قصة كيما يعبر عن شيئ اخر. لم تعد وسيلة للتسلية ، او اشباعا سهلا للمخيلة
او العاطفة الساذجة ، او كان تعبر عن القلق او السبر و الرصد التاريخي و الاخلاقي
او كشف اغوار النفس البشرية.
يبدو انها
بدات حياتها هكذا...نصف متعلمة ، نصف صحافة ، و نصف مصلح ااجتماعي او نصف رجل دين.
و نصف رجل كاشف اسرار.
غير ان التقدم
الثقافي و الحضاري جعلها ثقافة و حضارة اما اليوم فهي توعية و تعبئة و سلاح.
صارت الخلائق
يراجعونها كما يراجعون المؤسسات ذات الطابع و الصفات المادية و المعنوية ،
الاقتصادية و التجارية ، السياسية الادارية و كذا الاجتماعية، بحيث يذوب الاستغلال
التجاري الاقتصادي في الاستغلال الفني و الثقافي و التقني.
حتى القرن
التاسع عشر كانت الرواية ثري رجل الحرب . فقد اصبحت تمتلك الثروة الضخمة الثابتة
من " التصوير الاجتماعي" و معظم الاسهم في (مصرف التاربخ) ورقابة الماسي
البشرية ، كما صار لها فندقا خاصا بباريس مع "بورجه" ، و فيلا على
البوسفور مع "لوتي" ، واقطاعات اراض في الارياف منذ " بلزاك"
و "فلوبير" ، و حتى عام 1800 لم يكن يطلب منها الناس منها الا ان تسليهم
و تؤثر فيهم .
اما الان
فانهم يراجعونها فيما يتعلق بمشاكل الفقر و الزواج و الطلاق و الاستثمار الموارد
البشرية ، و البنى التحتية و الفوقية و التنمية
، السلم ، الحرب و الحب في حدود انتشار التسامح.
بل صارت
الرواية سلطة مع " بلزاك" الذي اصبح الها يحمل مجتمعا باكمله في ذهنه ،
اله الرواية. تماما كما صار الادب سنة 1755 مع رسالة ( صمويل جونسون) ، يلتمس فيها
مساعدة لنشر كتابه Dictionnaire ، من لدن
اللورد (تشيسترفيلد) ، يوم ذاك اعتبر تاريخا افتراضيا لظهور الاديب كسلطة (مانا)،
يستمد سلطته من المناليزم Manaleisme
.
نتساءل اذن
في خجل ما الذي اسسته الرواية الجزائرية برؤوس لغاتها الثلاث : العربية ،
الامازيغية ، الفرنكفونية. الفرنكفونية كفكرة او ما بعد الكونيالية ، اين اعتبرت
اللغة الفرنسية كغنيمة حرب.
قد يتخيل
كاتب روائي حديث العهد بارخابيل و حيل و اساطير الرواية الكلاسيكية و الحديثة منها
، و بمرض الرواية ، و الرواية السيكولوجية ، و الرواية الواقعية السحرية ، اين
تمتزج الرواية الحلم بالعلم ، و الواقع بالخيال ، و الثقافة و الفن و الابداع
بالتجارة و الاقتصاد.
لم تعد
الرواية كما يتصورها اديب فقير ؛ فقر مادي و فقر معنوي. هو يسجن مجتمعا باكمله بين
دفتي كتاب ، يمتلك شخوصه ، و يمارس عليهم " ساديته" المقيتة ، يتلذذ
بعذابات ابطاله ، بل يعتبرهم ملكه ، اشياءه ، و يمارس عليهم طقوس غوايات شذوذه
المرضي ، من حيث الرواية هي مرض الادب ، لا يكفيه فيها بانتهاك ضمير واحد ، بل عدة
ضمائر دفعة واحدة.
بل يخضعهم
بوضعهم على سرير " بروكست" كما تقول الاسطورة ، ليحصل منهم على مقاس
واحد موحد طولا وعرضا.
كلا ، ليست
هذه الرواية في شيئ ، تلك التي يرينوها لنا عبر شاشات التلفزيون ، و عبر منصات
شبكات التواصل الاجتماعي ، كل ما حل معرض كتاب ، عيد من اعياد (ديونسيوس)!
وليست تلك
الكلمات الفقيرة ، و لا تلك الجمل الكسيحة ، العليلة ، المثقلة بداء الرشح و
السعال الديكي ، و بداء تضخم الكسل ، الرواية الجاهزة ، المعلبة او المتحجرة في
رفوف الكتب الصفراء الباهتة ، او تلك التي تضعها العجزة وزوار المقابر على القبور.
الرواية
الحقة ليست كتابا ، و ليست احتفاء البيع بالتوقيع ، و ليست معرضا يعرض فيها المؤلف
ماساته وشقاوته و تعاسته و اناته الاتسانية.
الرواية
مؤسسة بكل ما تعني الكلمة ، مشرع قومي وطني ، لها ما لسائر المؤسسات ، مرفقا عاما
او خاصا يمتاز بالتسمية و الشعار و الهدف ، و كذا الرسالة ، و بختم الدولة و
التوقيع ، لها مدخلات و متفاعلات و مخرجات و اثرها الرجعي ، كما لها عصفها الذهني
الفردي ، و عصفها الذهني الجمعي.
الرواية
مؤسسة ذات بنية تحتية و فوقيه ، تمتاز بموازنة و استقلالية مالية مادية .
و طاقم و
كادر و اطار بشري يقوم مقام مدير الاعمال للروائي ، ينوب بكل ما يقوم به اليوم ،
من افعال غير اخلاقية لا تحفظ ماء وجه الاديب الذي اصبح سلطة Mana
، و لا تحفظ اخلقة المهنة حين صارت الرواية كمؤسسة.
كم يثير مشهد
هذا الاديب وذاك الاسى و الشفقة وهو يجلس امام كتل مكدسة من الكتب ، يسميها
اصطلاحا (رواية) تحت شعار البيع بالتوقيع. في حين بقية السلط ظلت محافظة على بريق
ماء وجهها ، غير بعيد و من عل ، تراقب الرجل (...) الذي لم يع بعد انه صار سلطة
تضاهي السلط الثلاث : التشريعية ، القضائية ، التنفيذية ، و كذا السلطة الرابعة (
الاعلام).
لم يع بعد
انه امام مؤسسة وليست طبعات و تطبعا وطبعا من الكتب ، التي كانت تعني في العهد
الروماني البيع بالمزاد العلني ، او تعني بيع تمثال ، او الاعلام عن زواج.
كل ما يقال
عن هذه الحالة ، الهتك الفظ لسر الخلق و الابداع ، على ضوء مجهول في ساحة عامة.
والى ان تصير
الرواية الجزائرية مؤسسة بالتراكم و الاضافات ، سواء بالتغذية الراجعة التاريخية
السيكولوجية السوسيولوجية الانثربولوجية ، تظل الرواية عندنا سجينة كتاب غير مكنون
لا يفقد للود قضية ، ضعيفا ، فقيرا كما خطط له الكارتل ان تظل الرواية كذاك
(بكائية) طللية ، المتحف كفيل ان يجعل الصليب يغدو ان يكون نحثا كما يقول (مالرو).