مذبحة الحرم الإبراهيمي الشريف
الذكرى السابعة والعشرون لجريمة حرق الحرم الإبراهيمي - (25 شباط/فبراير 1994)
(2) مجزرة الحرم الإبراهيمي الشريف
(25 شباط/فبراير 1994)
هنا كان " كنيساً يهوديا" وهناك "هيكل سليمان"!!
بقلم: محمود كعوش
إمعاناً في ممارسة الإرهاب المتواصل بحق الشعب
الفلسطيني وتطوير الأدوات والوسائل الصهيونية لاقتلاع هذا الشعب من أرضه وتهجيره
كما أشرت مراراً وتكراراً في دراسات ومقالات سابقة لي، وتمشياً مع العقيدة
الصهيونية الحاقدة والمتعطشة دائماً للدماء وإزهاق أرواح الأبرياء من أطفال ونساء
وشيوخ ومدنيي فلسطين العزل، مارست العصابات الإرهابية الصهيونية أبشع صور القتل
والفتك والتنكيل بحق الفلسطينيين، ودأبت على اقتحام القرى والبلدات الفلسطينية
وسفك دماء أهلها بدم بارد لإجبارهم على مغادرتها والنزوح عنها، وارتكبت أبشع
المجازر والمذابح في شتى الأماكن، بما في ذلك بيوت العبادة. كما قامت بنسف العديد
من الدوائر العامة والحافلات والأسواق على مدار فترة اغتصاب فلسطين المتواصلة.
وكان لكل مجرم صهيوني تولّى السلطة في كيان
الاغتصاب نصيبه من المجازر والمذابح التي ارتكبت بحق الفلسطينيين والعرب عامة.
فعلى سبيل المثال لا الحصر كان "آرئيل شارون" صاحب مجزرة صبرا وشاتيلا،
وكان "مناحيم بجن" صاحب مجزرتي دير ياسين وكفر قاسم، وكان "اسحق
شامير" صاحب مذبحة فندق الملك داود بمدينة القدس، وكان "شيمون
بيريز" صاحب مذبحة قانا، أي أنه كان لكل مجرم صهيوني تولى السلطة في تل أبيب
حصته من دم الفلسطينيين والعرب بشكل عام. وفي أحيان كثيرة كانت المجازر والمذابح
ترتكب بشكل فردي فيقوم بها صهيوني مسعور بشكل فردي، ولكن بالقطع بمباركة أسياده في
سلطة تل أبيب، مثلما حصل في مجزرة الحرم الابراهيمي الشريف.
وبنتيجة احتلال "إسرائيل" للضفة
الغربية الفلسطينية من ضمن الأراضي العربية التي احتلتها إثر الحرب العدوانية التي
شنتها ضد ثلاثة من الأقطار العربية هي مصر وسوريه والأردن في 5 حزيران/يونيو عام
1967، تحول الحرم الإبراهيمي الشريف في مدينة الخليل من مجرد مسجد عادي للعبادة
كبقية المساجد المنتشرة فوق تراب فلسطين من البحر للنهر إلى بؤرة صراع عقدي وسياسي
مثله مثل المسجد الأقصى المبارك في الشطر الشرقي لمدينة القدس.
وبالاتكاء إلى المزاعم والأضاليل التلمودية
والتوراتية الباطلة والمفبركة اعتاد الصهاينة الأنذال على الكذب والادعاء زوراً
وبهتاناً بأن الحرم الابراهيمي الشريف "كان كنيساً يهودياً"، وفعلوا كل
شيء من أجل إبعاد الفلسطينيين عنه بشكل نهائي، تماماً كما اعتادوا على الكذب
والادعاء بأن المسجد الأقصى المبارك "أقيم على أنقاض هيكل سليمان"،
وتمادوا كثيراً في حفرياتهم تحته وعاثوا فساداً وجوراً وبهتاناً فوقه، بانتظار
اللحظة التي تمكنهم من هدمه وتحقيق حلمهم المزعوم!!
فمنذ أن سيطرت "إسرائيل" على مدينة
الخليل في الضفة الغربية، دأب الجنود والمستوطنون الصهاينة على اقتحام الحرم
الإبراهيمي وتدنيسه وممارسة جميع أساليب القذارة والسفالة حوله وداخل أروقته، حيث
أقاموا فيه حفلات الرقص والمجون والزواج والختان دون مراعاة لحرمته. ورويداً
رويداً تطور الأمر إلى درجة أنهم تجاسروا وأدوا فيه صلواتهم التلمودية وأدخلوا
إليه مقاعد وطاولات ونسخاً من التوراة ومارسوا طقوسهم الدينية وألقوا العظات
والمحاضرات الدينية، وحولوا أجزاء هامة منه، وخاصة الساحات الإسحاقية واليعقوبية
والإبراهيمية، إلى مدرسة دينية وكنيس يهودي.
ولعل التطور الأخطر الذي حل بالمسجد الإبراهيمي
كان في 25 شباط/فبراير من عام 1994، الموافق 15 رمضان من عام 1414 هجري، عندما نفذ
المستوطن الصهيوني الحاقد "باروخ غولدشتاين" مجزرته الشهيرة والخطيرة
التي راح ضحيتها عشرات الشهداء ومئات الجرحى من المصلين الفلسطينيين، والتي على
إثرها شكلت حكومة الاحتلال لجنة تحقيق صهيونية أطلق عليها "لجنة شمغار"
قضت ظلما وزورا بتقسيم المسجد إلى قسم يهودي وآخر إسلامي وأمرت بإقامة حواجز
حديدية فاصلة بين القسمين، في الوقت الذي منع فيه المصلون المسلمون بتاتا من دخول
القسم المدعى أنه يهودي، بينما دأب الجنود والمستوطنون من وقت لآخر على اقتحام
القسم الذي يصلي فيه المسلمون، ووصلت قذارتهم حد منع هؤلاء من دخول هذا القسم
وتأدية صلواتهم فيه أثناء الأعياد اليهودية التلمودية!!
وهكذا حولت سلطة الاحتلال
"الإسرائيلية" الحرم الإبراهيمي الشريف إلى ثكنة عسكرية، ونصبت على
أبوابه الحواجز الحديدية والخشبية والبوابات الإلكترونية التي حولتها في ما بعد
إلى حواجز اسمنتية، وسيطرت على عشرات المباني والأسطح والحوانيت القريبة من المكان
بذريعة "الدواعي الأمنية"، وتحولت المنطقة بأكملها الى مربع أمني حُظر
على الفلسطينيين دخوله.
ولما كانت غاية سلطة الاحتلال من وراء تلك الإجراءات
التعسفية منع الفلسطينيين من الوصول إلى المسجد لأداء صلواتهم، اغتال الجنود
والمستوطنون الصهاينة الحاقدون عشرات الشبان الفلسطينيين والشابات الفلسطينيات عند
تلك الحواجز والبوابات بدعوى "قيامهم بمحاولات طعن بالسكاكين والآلات
الحادة". وحتى اليوم تخضع إجراءات الدخول والخروج إلى ومن المسجد لمتغيرات
كثيرة بين لحظة وأخرى، وتكون الذريعة دائماً "لدواعٍ أمنية" !!
كانت مجزرة الحرم الإبراهيمي الشريف، التي
شهدتها مدينة الخليل في الضفة الغربية الفلسطينية والتي يُحيي الفلسطينيون ذكراها
في كل شهر شباط/فبراير من كل عام، واحدة من أبشع الجرائم التي ارتكبتها العصابات
الإرهابية الصهيونية منذ انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول الذي انعقد في مدينة بازل
السويسرية عام 1897 وحتى اللحظة الراهنة. فبينما كان المصلون في الحرم الإبراهيمي
ركعاً سجداً بين يدي الله تعالى مولين وجوههم شطر بيت الله الحرام لتأدية فرض صلاة
فجر يوم الجمعة الموافق 25 شباط/فبراير 1994، الموافق 15 رمضان من عام 1414 هجري،
وقبل أن ينتهوا من السجود، انهمرت عليهم زخات من الرصاص الصهيوني الغادر من كل حدب
وصوب لتوقع أكثر من 350 إصابة بين شهيد وجريح. وهنا بدأ الفصل الثاني من تلك
المذبحة الإرهابية على يد المستوطن الإرهابي الصهيوني "باروخ جولدشتاين"
الذي رضع حليب الحقد والكراهية من ثدي أمه حيث ولد وترعرع في أزقّة وشوارع بروكلين
الأمريكية.
أما الفصل الأول من تلك المجزرة، فقد بدأ مساء
اليوم الذي سبق حدوثها، عندما قام الجنود والمستوطنون الصهاينة بمنع المصلين
الفلسطينيين من دخول الحرم لأداء صلاة العشاء، بدعوى أن ذلك اليوم كان يوم عيد
"البوريم" الخاص باليهود. وقتها تجمع المستوطنون الإرهابيون في ساحات
الحرم الخارجية، وبدأوا بإطلاق الأسهم والألعاب النارية باتجاه المصلين، وبعد فترة
قصيرة سمحت لهم قوات الاحتلال باقتحام الحرم الشريف من الداخل على شكل مجموعات
متتالية. وعند الساعة العاشرة من ذلك المساء طلبت قوات الاحتلال من المصلين مغادرة
الحرم، ولم تمهلهم إلا دقائق قليلة قبل أن تشرع بالاعتداء عليهم وهم يهمون بمغادرة
باحة الحرم.
لقد أثارت مجزرة الحرم الإبراهيمي البشعة في
حينه الرأي العام العالمي الذي أدانها بشدة، مما اضطر "إسرائيل" إلى
المبادرة بالاعتذار عن ما أسمته "الحادثة التي تسبب فيها رجل مختل
عقلياً"، بحسب تصريحات المسؤولين في تل أبيب. وقد ترافق الاعتذار مع قيام
"إسرائيل" بتقديم تعويضات لأهالي الضحايا، كما ترافق مع اتخاذها خطوات
وإجراءات سياسية إستثنائية اعتادت على اتخاذها في مثل هذه الحالة. كما ونجحت بدهاء
إعلامي في طي صفحة المجزرة، مستغلة مقتل الإرهابي "باروخ جولدشتاين" على
أيدي المصلين الفلسطينيين.
صحيح أن "إسرائيل" اعتذرت للشعب الفلسطيني
والعالم، إلا أن ذلك الاعتذار كان من قبيل رفع العتب ليس أكثر، بعدما فشلت في
فبركة المبررات والذرائع المنطقية والمقبولة لتلك الجريمة. وما دعا للحزن والأسى
أن العرب تعاملوا مع المجزرة في حينه بشكل أضاف نقطة أخرى إلى سجل ضعفهم في
التعامل مع الإعلام العالمي وإمكانية استثماره لصالح القضية الفلسطينية ومجمل
القضايا الوطنية والقومية العربية.
وكما هو الحال في وضعية جميع المجازر والمذابح
البربرية والوحشية التي تعرض لها الفلسطينيون داخل الوطن وخارجه على أيدي جلاوذة
الإرهاب الصهيوني الرسمي والفردي، فإنه من غير الممكن لأي عاقل أن يتكهن باحتمال
خروج مجزرة الحرم الابراهيمي من الذاكرة القومية، وبالأخص من الذاكرة الفلسطينية،
وبأخص الخصوص من ذاكرة من عاشوا أحداثها المفجعة والكارثية لحظة بلحظة.
لقد كانت مجزرة رهيبة خُطط لها بعناية فائقة
ونُفذت بدقة متناهية، بدليل أنه بات من شبه المستحيل أن يدخل مطلق فلسطيني الجزء
القديم من مدينة الخليل دون أن يخرج منه بانطباع واحد مفاده أن المجزرة قد نجحت في
تحقيق الأهداف التي ارتكبت من أجلها، وأن من خططوا لها نجحوا في ترحيل المواطنين
الذين كانوا فيه، إذ أن من لم يخرج منهم بالترغيب أجبر على الخروج بالترهيب. وبعد
بضعة أعوام على حدوث المجزرة، أصبح الجزء القديم من الخليل بؤرة أشباح، مَن يدخلها
يعيش حالة من الذعر والخوف والترقب ومن يسكنها يعيش حالة من الرعب ومن يخرج منها
لا يفكر بالعودة إليها بسبب ما يتعرض له من استفزاز وآلام واعتداءات منظمة
ومبرمجة.
لقد ثبت لاحقاً أن المتطرف "باروخ
غولدشتاين" لم يرتكب المجزرة وحده بل شاركه فيها جنود من جيش الاحتلال
الصهيوني كانت مهمتهم إغلاق باب الحرم الإبراهيمي لمنع المصلين من مغادرته ومنع
سيارات الإسعاف من الوصول إلى المنطقة. فحين حاول المواطنون الفلسطينيون نجدة
إخوانهم المصلين قابلهم الجنود المجرمون بإطلاق الرصاص الكثيف. وقد لاقت مجزرة
الحرم تأييداً من الغالبية العظمى في "إسرائيل". وعند سؤال أحد خامات
اليهود عما إذا كان يشعر بالأسف على من قتلهم "غولدشتاين" رد قائلاً
"إن مقتل العربي يؤسفني بالقدر الذي يؤسفني مقتل ذبابة".
جعلت "إسرائيل" من السفاح "باروخ
غولدشتاين" بطلاً قومياً، لا بل جعلت منه "قدوة وحلماً" لمن رضعوا
ما رضع هو من حليب الحقد والغدر، فقامت بدفنه في قبر عند مدخل مستوطنة "كريات
أربع" التي أقيمت على أرض فلسطينية شرق مدينة الخليل وعُرفت باحتضانها لأشد
العقول الصهيونية عنصرية وتعصباً وتطرفاً وإجراماً، وخصصت للقبر عدداً من جنود حرس
الشرف مهمتهم حراسته وتأدية التحية العسكرية لساكنه كل صباح. ويعتبره الصهاينة حتى
يومنا هذا "قديساً"، إذ حولوا قبره إلى مزار يرتادونه في ذكرى المجزرة
وفي العديد من مناسباتهم الدينية والوطنية. وقد دأبوا مع اقتراب موعد الذكرى
الأليمة في كل عام على ذرف الدموع المسمومة على مقتل طبيبهم المجرم، في وقت يذرف
الفلسطينيون دموع الحُزن والألم والأسى على فراق شهدائهم الأبرار.
مثله مثل جميع المواقع في الأراضي الفلسطينية،
بما في ذلك بيوت العبادة الإسلامية والمسيحية ظل الحرم الابراهيمي في مدينة الخليل
على الدوام عرضة لإجراءات التهويد. ولعل أسوأها كان قرار ضمه الى المواقع الأثرية
"الإسرائيلية" ومن ثم قرار مصادرته وتحويله إلى كنيس يهودي يرتاده
الحجاج اليهود في مناسباتهم الدينية والخاصة.
ولمن لا يعلم من العرب والمسلمين وأحرار العالم
فإنه لم يتبقَ لهم وللفلسطينيين من الحرم الإبراهيمي الشريف سوى التأمل في بنيانه
عن بُعد، وقراءة تلك اليافطة التي تصدرت واجهته وكُتب عليها "ممنوع الصلاة في
هذا المكان"، ولم يتبقَّ لكم سوى رؤية هذا المعلم الديني المبارك في وسائل
الإعلام المرئية والمكتوبة، والحصول وشراء صوره من الأسواق الصهيونية!!
ولمن لا يعلم أيضاً، فإن مجزرة الحرم الإبراهيمي
الشريف فتحت أمام الإرهابيين الصهاينة باب الغنائم على مصراعيه فنهلوا من الشريان
الفلسطيني ما لم يكفهم، وسينهلون منه ما لن يشبع نهمهم في قابل الأيام، بحيث يُترك
الجسد الفلسطيني ينزف حتى الموت تحت سمع وبصر "الإخوة الأعداء" في الضفة
الغربية وقطاع غزة الذين اختلفوا وتقاتلوا وتصارعوا وتناحروا وتباعدوا من أجل سلطة
واهية هي ليست بالأصل موجودة إلا في خيالاتهم وتخيلاتهم، وفي ظل تآمر أو تواطؤ أو
تماهي غالبية الحكام العرب والمسلمين وأصحاب القرار والنهي والأمر في المجتمع
الدولي.
محمود كعوش
كاتب وباحث سياسي فلسطيني
kawashmahmoud@yahoo.co.united kingdom