مذبحة الحرم الإبراهيمي الشريف الشريف (1)
مذبحة الحرم الإبراهيمي الشريف الشريف (1)
(يوم الخميس تستحق الذكرى
السابعة والعشرون لمذبحة الحرم الإبراهيمي. اليوم أبدأ بنشر مقالة حول المذبحة
الإجرامية على أن أنشر المقالة الثانية يوم الخميس)
مذبحة الحرم الإبراهيمي الشريف الشريف (1)
"أو مجزرة الحرم
الإبراهيمي"
(25 شباط/فبراير 1994)
ماذا تبقى لنا من
"الحرم الإبراهيمي" في الخليل؟
بقلم: محمود سعيد كعوش
يوم حدثت مذبحة الحرم
الإبراهيمي في 25 شباط/فبراير 1994 الذي توافق مع 15 رمضان 1414 هجري، قال أحد
شهود العيان من المصلين الناجين: "كنت أصلي في آخر صف للمصلين في الحرم
الإبراهيمي الشريف، وعندما وصلنا إلى آخر سورة الفاتحة سمعت من خلفي صوت مستوطنين
يقولون باللغة العبرية ما معناه بالعربية "هذه آخرتهم". وعندما وصل
الإمام إلى آية السجدة وهممنا بالسجود سمعت صوت إطلاق نار من جميع الاتجاهات، كما
سمعت صوت انفجارات، فبدا لي كأن الحرم قد بدأ يتهدم فوق رؤوسنا. لقد تفجّر رأس
المصلي الذي كان بجانبي وتطاير دماغه ودمه على رأسي ووجهي، وغبت عن الوعي ولم أصح
إلا بعد توقف إطلاق النار وبدء الناس بالتكبير الله أكبر، الله أكبر، فرفعت رأسي
وشاهدت المصلين يضربون شخصاً يلبس زياً عسكرياً".
ولدى سؤال الدكتور
الشيخ تيسير رجب التميمي قاضي قضاة فلسطين ورئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي
الفلسطيني عن المذبحة بعد ساعات من حدوثها قال: "إن يوم المذبحة هو يوم لن
ينسى في تاريخ مدينة خليل الرحمن الباسلة التي خرجت غاضبة ثائرة، وخرجت معها
جماهير شعبنا الفلسطيني في كل مكان في القدس والضفة وفي غزة، وامتدت الشرارة إلى
داخل فلسطين المحتلة عام forty eight في مسيرات ومظاهرات ومواجهات دامية، فتصدت لهم
قوات سلطة الاحتلال وجنودها المدججون بالسلاح، وفتحوا عليهم النار فسقطت كوكبة
جديدة من الشهداء غيلة وغدراً".
وأضاف الشيخ أن
"المذبحة كانت مخططاً مدروساً لتحقيق هدف مرسوم، هو تهويد الحرم الإبراهيمي
الشريف، وقلب مدينة خليل الرحمن، فبعد انقضاء فترة حظر التجوال الذي فرضته سلطة
الاحتلال على المدينة لأكثر من شهر، وبعد إغلاق الحرم في وجه المصلين المسلمين
لأكثر من شهرين، فوجئ أهل المدينة بتقسيمه وتهويد الجزء الأكبر منه، وتحديد عدد
المصلين وأوقات دخولهم إليه، بينما يسمح لليهود بالدخول والخروج متى رغبوا،
وبتشديد الإجراءات في قلب المدينة".
وأردف الشيخ متابعاً
"لكن هذه المدينة الصامدة، التي شهدت مذبحة الفجر، وعاودت الوقوف بثبات،
ستبقى عربية إسلامية بجهود أبنائها المخلصين الأوفياء، الذين يعاهدون الله على
التمسك بها والدفاع عنها، ومواصلة إعمارها والتسوق من أسواقها والمواظبة على
الصلاة في مسجدها الإبراهيمي الشريف، ليبقى عامراً بالمؤمنين، يصدع من على مآذنه
صوت الحق الله أكبر، فهو مسجد خالص للمسلمين بجميع بنائه وحجراته وأروقته وأبوابه،
ولا حق لليهود فيه من قريب أو بعيد، فلن تزيدهم المجازر إلا إصراراً على رفض
الانكسار، لأنهم موقنون بأن الحياة الطبيعية لمدينة الأنبياء والصالحين لن تعود
إلا برحيل آخر مستوطن".
يستذكر أبناء مدينة
الخليل والفلسطينيون عامة في 25 شباط/فبراير من كل عام مذبحة الحرم الإبراهيمي
الشريف، بكثير من الحزن والأسى لفقدانهم معلماً دينياً إسلامياً هاماً ووداعهم شهداء
أبرار سقطوا على مذبح الإرهاب الصهيوني المتواصل فوق أراضيهم المباركة على مدار
حقب ما بعد نكبة عام 1948.
فجر ذلك اليوم المشؤوم
اقتحم الإرهابي الصهيوني الطبيب "باروخ غولدشتاين" الحرم الإبراهيمي في
مدينة الخليل، الواقعة في الضفة الغربية، وشرع بإطلاق رصاص رشاشه الحربي على
المصلين من خلف ظهورهم أثناء خشوعهم بين يدي الله وتأديتهم الصلاة، مما أسفر عن
سقوط عشرات الشهداء ومئات الجرحى.
و"باروخ
غولدشتاين" الذي كان يحمل اسم "بنيامين" قبل أن يستبدله باسمه
اليهودي خلال دراسته الجامعية، وفق ما أفضى به صديقه "أنتوني بيترسون"،
ولد في الشارع رقم eighty one في بروكلين بنيويورك من عائلة أرثوذكسية
متطرفة، وتلقى تعليمه في مدارس "يشيف" الأرثوذوكسية في بروكلين، وبدت
عليه ملامح التعصب ضد العرب خلال دراسته في المرحلة الثانوية، ثم التحق بكلية
"اينشتاين" للطب حيث تخرج منها طبيباً وعمل في مستشفى
"بدوكريل" في "بروكلين" سنة 1982. وكان "غولدشتاين"
دائم الترديد لعبارة من التلمود تقول: "إذا كان عدوك يريد قتلك ابدأ أنت
بذبحه".
في عام 1982 وبعد تحرجه
التقى بالحاخام الصهيوني "مئير كهانا" الذي أصبح الأب الروحي له وتشرّب
على يديه الأفكار العنصرية ضد العرب. وفي عام 1983 قدم إلى كيان العدو مهاجراً
أمريكياً وعمل طبيباً في الجيش الصهيوني لاعتقاده أن ذلك "واجب ديني"،
ثم سكن في مستوطنة "كريات أربع" في مدينة الخليل عام 1990.
وكما هو معروف فإن
مدينة الخليل حيث وقعت المذبحة الرهيبة هي مدينة إسلامية عريقة بناها العرب قبل
آلاف السنين، وتعود أغلب آثارها ومبانيها إلى العصر الأموي الذي أولى خلفاؤه قبور
الأنبياء إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام وزوجاتهم الفاضلات اهتماماً ملحوظاً.
وكان الحرم الإبراهيمي كما كل مدينة الخليل ملكاً خالصاً للفلسطينيين والمسلمين
عامة إلى أن احتل الصهاينة بنتيجة عدوان الخامس من حزيران/يونيو 1967 الضفة
الغربية وسمحت سلطة الاحتلال للمتطرفين اليهود بإقامة طقوسهم الدينية فيه وتدنيسه.
ومنذ ذلك الوقت اتخذت
زيارات اليهود للحرم الإبراهيمي طابعًا استفزازياً متعمداً بلغ ذروته في 27 من
آب/أغسطس 1972 مع قيام الإرهابي الصهيوني الحاخام "مائير كهانا" زعيم
"رابطة الدفاع اليهودية" المعروفة باسم "كاخ" باقتحام مدينة
الخليل على رأس زمرة من أتباعه الموتورين وإقامتهم طقوساً يهودية جماعية وعلنية.
وفى 31 تشرين الأول/أكتوبر من ذات العام استدعى الحاكم العسكري الصهيوني مدير
أوقاف الخليل والقائم على الحرم وأبلغهما قراراً قضى بوضع سقف للمسجد المكشوف
وتخصيصه لليهود كما قضى بزيادة عدد المقاعد في داخله ووضع خزائن لحفظ التوراة ومنع
المسلمين من الصلاة على موتاهم وتقليص عدد الساعات المسموحة لصلاتهم فيه، الأمر
الذي أدى إلى رفض الهيئة الإسلامية العليا في القدس للقرار واعتباره انتهاكًا
لمقدسات المسلمين ولا قانونياً.
يُشار في هذا الصدد إلى
أن سكان مستوطنة "كريات أربع" المجاورة لمدينة الخليل وجميعهم من اليهود
الموتورين والمتطرفين لم يوقفوا يوماً اعتداءاتهم على الحرم، بما في ذلك نهب
محتوياته وتمزيق المصاحف فيه وإنزال الهلال عن قبته وسرقة ساعاته الأثرية
والاستيلاء على مخطوطات إسلامية لا تقدّر بثمن. وتجدر الإشارة إلى أنه في كل مرة
كان أهل الخليل يتصدون فيها للمستوطنين دفاعًا عن الحرم، كانت مطالب هؤلاء الخاصة
بالإشراف على الحرم تزداد إصرارًا وإجراءاتهم تتصاعد في الاعتداء على السكان
العرب. ومما لا شك فيه أن مذبحة الحرم حدثت ضمن سلسلة تصاعدية من الاعتداءات
المتكررة التي لم تجد من جانب سلطات الاحتلال الصهيونية غير التجاهل واللامبالاة.
يُذكر أن مذبحة الحرم
الإبراهيمي قد تسببت في حينه بإثارة الرأي العام العالمي الذي أدانها بشدة، مما
اضطر الكيان الصهيوني إلى المبادرة بالاعتذار عن ما أسماه "الحادثة التي تسبب
فيها رجل مختل عقلياً"، بحسب ادعاءت المسؤولين في تل أبيب. وقد ترافق
الاعتذار مع قيام الكيان بتقديم تعويضات لأهالي الضحايا، كما ترافق مع اتخاذه
خطوات وإجراءات سياسية استثنائية لطالما دأب على اتخاذها في مثل هذه الحالة. هذا
ونجح الكيان بدهاء إعلامي ملحوظ في طي صفحة المذبحة، خاصة بعد أن تم قتل الإرهابي
"باروخ جولدشتاين" على أيدي المصلين.
لا شك أن ذلك الاعتذار
كان ضرورياً بالنسبة للكيان الصهيوني بعدما فشل في فبركة المبررات والذرائع
المنطقية والمقبولة لتلك الجريمة، لكنه لم يتجاوز إطار ذر الرماد في العيون. وما
دعا للحزن والأسى، بل للخزي والعار، أن العرب تعاملوا مع المجزرة الرهيبة بتهاون
وغباء أضافا نقاطاً أخرى إلى سجل عجزهم في التعامل مع الإعلام العالمي وإمكانية
استثماره لصالح القضية الفلسطينية ومجمل القضايا الوطنية والقومية العربية.
من المؤكد أنه لن يكون
ممكناً لأي عاقل أن يتكهن باحتمال أن تبرح مذبحة الحرم الإبراهيمي الذاكرة
الفلسطينية، تماماً كما هو الحال مع كل المذابح والمجازر والجرائم البربرية
والوحشية التي تعرّض لها الفلسطينيون داخل الوطن وخارجه على أيدي جلاوذة الإرهاب
الصهيوني الرسمي والفردي، أقله من ذاكرة من عاشوا أحداثها المفجعة والكارثية.
لقد كانت مذبحة رهيبة خُطط
لها بمكر ودهاء وعناية بالغة ونُفذت بدقة متناهية. ودلل على ذلك أنه وبعد مرور كل
هذا الوقت الطويل على ارتكابها، لم تزل سلطات الكيان الصهيوني تصرّ على عدم السماح
لأي من الفلسطينيين بدخول الجزء القديم من مدينة الخليل. ومن يسعفه الحظ بالدخول،
يخرج بانطباع مفاده أن المجزرة قد نجحت فعلياً في تحقيق الأهداف التي ارتكبت من
أجلها، وأن من خططوا لها نجحوا في ترحيل المواطنين الذين كانوا في هذا الجزء، إذ
أن من لم يخرج منهم بالترغيب أجبر على الخروج بالترهيب.
بعد المذبحة الرهيبة،
أصبح الجزء القديم من الخليل بؤرة أشباح، فمَن يدخلها يعيش حالة من الذعر والخوف
والترقب ومن يسكنها يعيش حالة من الرعب ومن يخرج منها لا يفكر بالعودة إليها بسبب
ما يتعرّض له من استفزاز وآلام واعتداءات منظمة ومبرمجة. لقد دللت جميع الوقائع
والمعطيات التي توفرت بعيد ارتكاب المذبحة أن المتطرف الصهيوني "باروخ
غولدشتاين" لم يرتكبها وحده، بل شاركه فيها جنود من جيش الاحتلال الصهيوني،
كانت مهمتهم إغلاق باب الحرم الإبراهيمي لمنع المصلين من مغادرته، ومنع سيارات
الإسعاف من الوصول إلى المنطقة. فحين حاول بعض الفلسطينيين نجدة إخوانهم المصلين
قابلهم الجنود المجرمون بإطلاق الرصاص بكثافة وغزارة.
وقد لاقت مذبحة الحرم
تأييداً من غالبية الصهاينة في كيان العدو الصهيوني. فعند سؤال أحد خامات اليهود
عما إذا كان يشعر بالأسف والأسى على من قتلهم "غولدشتاين"، ردّ قائلاً
"إن مقتل العربي يؤسفني بالقدر الذي يؤسفني مقتل ذبابة"!! وكما هو معلوم
فإن الكيان الصهيوني حَوَل السفاح "باروخ غولدشتاين" إلى "بطل قومي
يهودي"، بل جعل منه قدوة وحلماً لمن رضعوا من ذات الحليب الذي رضعه، إذ تم
دفنه في قبر عند مدخل مستوطنة "كريات أربع" وخصص للقبر عدد من جنود حرس
الشرف مهمتهم حراسته وتأدية التحية العسكرية لنزيله كل صباح. وليس من باب المبالغة
القول أن الصهاينة أنزلوه حتى يومنا هذا "منزلة القديسين"، فحولوا قبره
إلى مزار يرتادونه في الذكرى، وفي مناسباتهم الدينية والوطنية. وقد دأبوا مع
اقتراب موعد الذكرى الأليمة في كل عام على ذرف الدموع المسمومة على مقتل طبيبهم
المجرم، في وقت يذرف الفلسطينيون دموع الحُزن والألم والحسرة على فراق معلمهم
الديني وشهدائهم الأبرار.
بعد مُضي كل هذه العقود
على حدوث المذبحة البربرية، أصبح باستطاعتي القول أنه لم يتبقَ للمسلمين والعرب،
بمن فيهم الفلسطينيين، من الحرم الإبراهيمي الشريف في مدينة الخليل سوى فرصة النظر
إلى بنيانه وتأمله عن بعد، وقراءة يافطة مجاورة له تقول "ممنوع الصلاة في هذا
المكان"، وإمكانية رؤيته في وسائل الإعلام التي قد تأتي على ذكره من وقت
لآخر، ولربما أيضاً الحصول على صور تذكارية له يشترونها من الأسواق الصهيونية لغرض
تزيين جدران منازلهم بها.
وكما جاء في قولٍ حكيمٍ
لعاقل فلسطينيٍ فإن "مذبحة الحرم الإبراهيمي الشريف قد فتحت أمام الإرهابيين
الصهاينة باب الغنائم على مصراعيه فنهلوا من الشريان الفلسطيني ما لم يكفهم على
مدار تاريخ نكبة فلسطين".. وربما أنهم سينهلون منه ما لن يكفيهم في قادم
الأيام، بحيث يُترك الجسد الفلسطيني ينزف حتى الموت تحت سمع وبصر إخوة الدم في
الضفة الغربية وقطاع غزة، وتحت سمع وبصر جميع العرب والمسلمين في العالم.
في ما يلي قائمة بأسماء
شهداء مذبحة الحرم الإبراهيمي: الإجرامية
رائد عبد المطلب حسن
النتشة، علاء بدر عبد الحليم طه أبو سنينة، مروان مطلق حامد أبو نجمة، ذياب عبد
اللطيف حرباوي الكركي، خالد خلوي أبو حسين أبو سنينة، نور الدين إبراهيم عبيد
المحتسب، صابر موسى حسني كاتبة بدر، نمر محمد نمر مجاهد، كمال جمال عبد الغني
قفيشة، عرفات موسى يوسف برقان، راجي الزين عبد الخالق غيث، وليد زهير محفوظ أبو
حمدية، سفيان بركات عوف زاهدة، جميل عايد عبد الفتاح النتشة، عبد الحق إبراهيم عبد
الحق الجعبري، سلمان عواد عليان الجعبري، طارق عدنان محمد عاشور أبو سنينة، عبد
الرحيم عبد الرحمن سلامة، جبر عارف أبو حديد أبو سنينة، حاتم خضر نمر الفاخوري،
سليم إدريس فلاح إدريس، رامي عرفات علي الرجبي، خالد محمد حمزة عبد الرحمن الكركي،
وائل صلاح يعقوب المحتسب، زيدان حمودة عبد المجيد حامد، أحمد عبد الله محمد طه أبو
سنينة، طلال محمد داود محمود دنديس، عطية محمد عطية السلايمة، إسماعيل فايز إسماعيل
قفيشة، نادر سالم محمد صالح زاهدة، أيمن أيوب محمد القواسمي، عرفات محمود أحمد
البايض ومحمود صادق محمد أبو زعنونة.
محمود كعوش